فصل: ذكر خروج ابن أشكام على نوح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مراسلة المتقي توزون في العود:

وفيها أرسل المتقي لله إلى توزون يطلب منه العود إلى بغداد.
وسبب ذلك أنه رأى من بني حمدان تضجراً به، وإيثار المفارقة، فاضطر إلى مراسلة توزون، فأرسل الحسن بن هارون وأبا عبدالله بن أبي موسى الهاشمي إليه في الصلح، فلقيهما توزون وابن شيرزاد بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه، فاستوثقا من توزون وحلفاه للمتقي لله، وأحضر لليمين خلقاً كثيراً، من القضاة، والعدول، والعباسيين، والعلويين، وغيرهم من أصناف الناس، وحلف توزون للمتقي والوزير، وكتبوا خطوطهم بذلك، وكان من أمر المتقي لله ما نذكره سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

.ذكر ملك الروس مدينة بردعة:

في هذه السنة خرجت طائفة من الروسية في البحر إلى نواحي أذربيجان، وركبوا في البحر في نهر للكر، وهو نهر كبير، فانتهوا إلى بردعة، فخرج إليهم نائب المرزبان بردعة في جمع الديلم والمطوعة يزيدون على خمسة آلاف رجلن فلقوا الروس، فلم يكن إلا ساعة حتى انهزم المسلمون منهم، وقتل الديلم عن آخرهم، وتبعهم الروس إلى البلد، فهرب من كان له مركوب وترك البلد، فنزله الروس ونادوا فيه بالأمان فأحسنوا السيرة.
وأقبت العساكر الإسلامية من كل ناحية فكانت الروس تقاتلهم، فلا يثبت المسلمون لهم، وكان عامة البلد يخرجون ويرجمون الروس بالحجارة، ويصيحون بهم، فينهاهم الروس عن ذلك، فلم ينتهوا، سوى العقلاء فإنهم كفوا أنفسهم وسائر العامة والرعاع لا يضبطون أنفسهم، فلما طال ذلك عليهم نادى مناديهم بخروج أهل البلد منه، وأن لا يقيموا بعد ثلاثة أيام، فخرج من كان له ظهر يحمله، وبقي أكثرهم بعد الأجل، فوضع الروسية فيهم السلاح فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف نفس، وجمعوا من بقي بالجامع، وقالوا: اشتروا أنفسكم وإلا قتلناكم؛ وسعى لهم إنسان نصراني، فقرر عن كل رجل عشرين درهماً، فلم يقبل منهم إلا عقلاؤهم، فلما رأى الروسية أنه لا يحصل منهم شيء قتلوهم عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا الشريد، وغنموا أموال أهلها واستعبدوا السبي، واختاروا من النساء من استحسنوها.

.ذكر مسير المرزبان إليهم والظفر بهم:

لما فعل الروس بأهل بردعة ما ذكرناه استعظمه المسلمون، وتنادوا بالنفير، وجمع المرزبان بن محمد الناس واستنفرهم فبلغ عدة من معه ثلاثين ألفاً، وسار بهم، فلم يقاوم الروسية، وكان يغاديهم القتال ويراوحهم، فلا يعود إلا مفلولاً، فبقوا كذلك أياماً كثيرة، وكان الروسية قد توجهوا نحو مراغة، فأكثروا من أكل الفواكه، فأصابهم الوباء، وكثرت الأمراض والموت فيهم.
ولما طال الأمر على المرزبان أعمل الحيل، فرأى أن يكمن كميناً، ثم يلقاهم في عسكره، ويتطارد لهم، فإذا خرج الكمين عاد عليهم، فتقدم إلى أصحابه بذلك، ورتب الكمين ثم لقيهم، واقتتلوا، فتطارد لهم المرزبان وأصحابه، وتبعهم الروسية حتى جازوا موضع الكمين، فاستمر الناس على هزيمتهم لا يلوي أحد على أحد.
فحكى المرزبان قال: صحت بالناس ليرجعوا، فلم يفعلوا لما تقدم في قلوبهم من هيبة الروسية، فعلمت أنه استمر الناس على الهزيمة قتل الروس أكثرهم، ثم عادوا إلى الكمين ففطنوا بهم، فقتلوهم عن آخرهم.
قال: فرجعت وحدي وتبعني أخي وصاحبي، ووطنت نفسي على الشهادة، فحينئذ عاد أكثر الديلم استحياء فرجعوا وقاتلناهم، ونادينا بالكمين بالعلامة بيننا، فخرجوا من ورائهم، وصدقناهم القتال، فقتلنا منهم خلقاً كثيراً منهم أميرهم، والتجأ الباقون إلى حصن البلد، ويسمى شهرستان، وكانوا قد نقلوا إليه ميرة كثيرة، وجعلوا معهم السبي والأموال، فحاصرهم المرزبان وصابرهم، فأتاه الخبر بأن أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان قد سار إلى أذربيجان، وأنه واصل إلى سلماس، وكان ابن عمه ناصر الدولة قد سيره ليستولي على أذربيجان، فلما بلغ الخبر إلى المرزبان ترك على الروسية من يحاصرهم وسار إلى ابن حمدان، فاقتتلوا، ثم نزل الثلج، فتفرق أصحاب ابن حمدان لأن أكثرهم أعراب، ثم أتاه كتاب ناصر الدولة يخبره بموت توزون، وأنه يريد الانحدار إلى بغداد، ويأمره بالعود إليه، فرجع.
وأما أصحاب المرزبان فأنهم أقاموا يقاتلون الروسية، وزاد الوباء على الروسية فكانوا إذا دفنوا الرجل دفنوا معه سلاحه، فاستخرج المسلمون من ذلك شيئاً كثيراً بعد انصراف الروس، ثم إنهم خرجوا من الحسن ليلا وقد حملوا على ظهورهم ما أرادوا من الأموال وغيرها، ومضوا إلى الكر، وركبوا في سفنهم ومضوا، وعجز أصحاب المرزبان عن أتباعهم وأخذ ما معهم، فتركوهم وطهر الله البلاد منهم.

.ذكر خروج ابن أشكام على نوح:

وفي هذه السنة خالف عبدالله بن أشكام على الأمير نوح، وامتنع بخوارزم، فسار نوح من بخارى إلى مرو بسببه، وسير إليه جيشاً، وجعل عليهم إبراهيم ابن بارس، وساروا نحوه، فمات إبراهيم في الطريق، وكاتب ابن أشكام ملك الترك، وراسله، واحتمى به.
وكان لملك الترك ولد في يد نوح، وهو محبوس ببخارى، فراسل نوح أباه في إطلاقه ليقبض على ابن أشكام، فأجابه ملك الترك إلى ذلك، فلما علم ابن أشكام الحال عاد إلى طاعة نوح، وفارق خوارزم، فأحسن إليه نوح وأكرمه وعفا عنه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في رمضان، مات أبو طاهر الهجري رئيس القرامطة، أصابه جدري فمات، وكان له ثلاثة إخوة منهم: أبو القاسم سعيد بن الحسن، وهو الأكبر، وأبو العباس الفضل بن الحسن، وهذا كانا يتفقان مع أبي طاهر على الرأي والتدبير، وكان لهما أخ ثالث لا يجتمع بهما، وهو مشغول بالشرب واللهو.
وفيها، في جمادى الأولى، غلت الأسعار في بغداد حتى بيع القفيز الواحد من الدقيق الخشكار بنيف وستين درهماً، والخبز الخشكار ثلاثة أرطال بدرهم.
وكانت الأمطار كثيرة مسرفة جداً حتى خرجبت المنازل، ومات خلق كثير تحت الهدم، ونقصت قيمة العقار حتى صار ما كان يساوي ديناراً يباع بأقل من درهم حقيقة، وما يسقط من الأبنية لا يعاد، وتعطل كثير من الحمامات، والمساجد، والأسواق، لقلة الناس، وتعطل كثير من أتاتين الآجر لقلة البناء، ومن يضطر إليه اجتزأ بالأنقاض، وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل والنهار من أصحاب ابن حمدي، وتحارس الناس بالبوقات، وعظم أمر ابن حمدي فأعجز الناس، وأمنه ابن شيرزاد وخلع عليه وشرط معه أن يوصله كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه، وكان يستوفيها من ابن حمدي بالروزات، فعظم شره حينئذ وهذا ما لم يسمع بمثله.
ثم إن أبا العباس الديلمي، صاحب الشرطة ببغداد، ظفر بابن حمدي فقتله في جمادى الآخرة، فخف عن الناس بعض ما هم فيه.
وفيها، في شعبان، هو الواقع في نيسان، ظهر في الجو شيء كثير ستر عين الشمس ببغداد، فتوهمه الناس جراداً لكثرته، ولم يشكوا في ذلك، إلى أن سقط منه شيء على الأرض، فإذا هو حيوان يطير في البساتين وله جناحان قائمان منقوشان، فإذا أخذ الإنسان جناحه بيده بقي أثر ألوان الجناح في يده ويعدم الجناح، ويسميه الصبيان طحان الذريرة.
وفيها استولى معز الدولة على واسط، وانحدر من كان من أصحاب البريدي فيها إلى البصرة.
وفيها قبض سيف الدولة بن حمدان على محمد بن ينال الترجمان بالرقة وقتله؛ وسبب ذلك أنه قد بلغه أنه قد واطأ المتقي على الإيقاع بسيف الدولة.
وفيها عرض لتوزون صرع وهو جالس للسلام، والناس بين يديه، فقام ابن شيرزاد ومد في وجهه ما ستره عن الناس، فصرفهم وقال أنه قد ثار به خمار لحقه.
وفيها ثار نافع غلام يوسف بن وجيه صاحب عمان على مولاه يوسف، وملك البلد بعده.
وفيها دخل الروم رأس عين في ربيع الأول، فأقاموا بها ثلاثة أيام، ونهبوها، وسبوا من أهلها، وقصدهم الأعراب، فقاتلوهم، ففارقها الروم، وكان الروم في ثمانين ألفاً مع الدمستق.
وفيها، في ربيع الأول، استعمل ناصر الدولة بن حمدان أبا بكر محمد بن علي ابن مقاتل على طريق الفرات، وديار مضر، وجند قنسرين، والعواصم، وحمص، وأنفذه إليها من الموصل ومعه جماعة من الوقاد، ثم استعمل بعده، في رجب من السنة، ابن عمه أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك، فلما وصل إلى الرقة منعه أهلها، فقاتلهم، فظفر بهم، وأحرق من البلد قطعة، وأخذ رؤساء أهلها إلى حلب. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر مسير المتقي إلى بغداد وخلعه:

كان المتقي لله قد كتب إلى الإخشيد محمد بن طغج متولي مصر يشكو حاله ويستقدمه إليه، فأتاه من مصر، فلما وصل إلى حلب سار عنها أبو عبدالله بن سعيد بن حمدان، وكان ابن مقاتل بها معه، فلما علم برحيله عنها اختفى، فلما قدم الإخشيد إليها ظهر إليه ابن مقاتل، فأكرمه الإخشيد، واستعمله على خراج مصر، وانكسر عليه ما بقي من المصادرة التي صادره بها ناصر الدولة بن حمدان، ومبلغه خمسون ألف دينار.
وسار الإخشيد من حلب، فوصل إلى المتقي منتصف محرم، وهو بالرقة، فأكرمه المتقي واحترمه، ووقف الإخشيد وقوف الغلمان، ومشى بين يديه، فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل إلى أن نزل المتقي، وحمل إلى المتقي هدايا عظيمة، وإلى الوزير أبي الحسين بن مقلة وسائر الأصحاب، واجتهد بالمتقي ليسير معه إلى مصر والشام، ويكون بين يديه، فلم يفعل، وأشار عليه بالمقام مكانه، ولا يرجع إلى بغداد، وخوفه من توزون، فلم يفعل، وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في جميع بلاده، فلم يجبه إلى ذلك، فخوفه أيضاً من توزون، فكان ابن مقلة يقول بعد ذلك: نصحني الإخشيد فلم أقبل نصيحته.
وكان قد أنفذ رسلاً إلى توزون في الصلح، على ما ذكرناه، فحلفوا توزون للخليفة والوزير، فلما حلف كتب الرسل إلى المتقي بذلك، فكتب إليه الناس أيضاً بما شاهدوا من تأكيد اليمين، فانحدر المتقي من الرقة في الفرات إلى بغداد لأربع بقين من المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر، فلما وصل المتقي إلى هيت أقام بها، وأنفذ من يجدد من اليمين على توزون، فعاد وحلف، وسار عن بغداد لعشر بقين من صفر ليلتقي المتقي، فالتقاه بالسندية، فنزل توزون وقبل الأرض وقال: ها أنا قد وفيت بيميني والطاعة لك؛ ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة، وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي، ثم كحله فأذهب عينيه، فلما سلمه صاح، وصاح من عنده من الحرم والخدم، وارتجت الدنيا، فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم، فخفيت أصواتهم، وعمي المتقي لله، وانحدر توزون من الغد إلى بغداد والجماعة في قبضته.
وكانت خلافة المتقي لله ثلاث سنين وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وكان أبيض أشهل العينين، وأمه أم ولد اسمها خلوب، وكانت وزارة ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثني عشر يوماً.

.ذكر خلافة المستكفي بالله:

هو المستكفي بالله أبو القاسم عبدالله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن الموكل على الله، يجتمع هو المتقي لله في المعتضد، لما قبض توزون على المتقي لله أحضر المستقي إليه إلى السندية، وبايعه هو وعامة الناس.
وكان سبب البيعة له ما حكاه أبو العباس التميمي الرازي، وكان من خواص توزون، قال: كنت أنا السبب في البيعة للمستكفي، وذلك أنني دعاني إبراهيم بن الزوبيندار الديلمي، فمضيت إليه، فذكر لي أنه تزوج إلى قوم وأن امرأة منهم قالت له: إن المتقي هذا قد عاداكم وعاديتموه، وكاشفكم، ولا يصفو قلبه لكم، وها هنا رجل من أولاد الخلفاء من ولد المكتفي- وذكرت عقله، وأدبه، ودينه- تنصبونه للخلافة فيكون صنيعتكم وغرسكم، ويدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره، وتستريحون من الخوف والحراسة.
قال: فعلمت أن هذا أمر لا يتم إلا بك، فدعوتك له؛ فقلت: أريد أن أسمع كلام المرأة؛ فجاءني بها، فرأيت امرأة عاقلة، جزلة، فذكرت لي نحواً من ذلك، فقلت: لا بد أن ألقي الرجل؛ فقالت: تعود غداً إلى ها هنا حتى أجمع بينكما؛ فعدت إليها من الغد، فوجدته قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة، فعرفني نفسه، وضمن إظهار ثمانمائة ألف دينار منها مائة ألف لتوزون، وذكر وجوهها وخاطبني خطاب رجل فهم عاقل، ورأيته يتشيع، قال: فأتيت توزون فأخبرته، فوقع كلامي بقلبه وقال: أريد أن أبصر الرجل؛ فقلت: لك ذلك، ولكن اكتم أمرنا من ابن شيرزاد؛ فقال: أفعل؛ وعدت إليهم وأخبرتهم الذي ذكر، ووعدتهم حضور توزون من الغد.
فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر مشيت مع توزون مستخفيين، فاجتمعنا به، وخاطبه توزون وبايعه تلك الليلة، وكتم الأمر، فلما وصل المتقي قلت لتوزون لما لقيه: أنت على ذلك العزم؟ قال: نعم؛ قلت: فافعله الساعة، فإنه إن دخل الدار بعد عليك مرامه؛ فوكل به وسلمه، وجرى ما جرى.
وبويع المستكفي بالخلافة يوم خلع المتقي. وأحضر المتقي، فبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفي، وسمت نفسها علماً، وغلبت على أمره كله.
واستوزر المستكفي بالله أبا الفرج محمد بن علي الساري يوم الأربعاء لست بقين من صفر، ولم يكن له إلا اسم الوزارة، والذي يتولى الأمور ابن شيرزاد، وحبس المتقي، وخلع المستكفي بالله على توزون خلعة وتاجاً، وطلب المستكفي بالله أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وهو الذي ولي الخلافة، ولقب المطيع لله، لأنه كان يعرفه يطلب الخلافة، فاستتر مدة خلافة المستكفي، فهدمت داره التي على دجلة عند دار ابن طاهر، حتى لم يبق منها شيء.

.ذكر خروج أبي يزيد الخارجي بإفريقية:

في هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد بإفريقية وكثر أتباعه وهزم الجيوش.
وكان ابتداء أمره أنه من زناته، واسم والده كنداد من مدينة توزر من قسطيلية، وكان يختلف إلى بلاد السودان لتجارة، فولد له بها أبو يزيد من جارية هوارية، فأتى بها إلى توزر، فنشأ بها، وتعلم القرآن، وخالط جماعة من النكارية، فمالت نفسه إلى مذهبهم، ثم سافر إلى تاهرت فأقام بها يعلم الصبيان إلى أن خرج أبو عبدالله الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي، فانتقل إلى تقيوس، واشترى ضيعة وأقام يعلم فيها.
وكان مذهبه تكفير أهل الملة، واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان، فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم ومذاهبهم، فصار له جماعة يعظمونه، وذلك أيام المهدي سنة ست عشرة وثلاثمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن اشتدت شوكته، وكثر أتباعه في أيام القائم ولد المهدي، فصار يغير، ويحرق، ويفسد، وزحف إلى بلاد القائم وحاصر باغاية، وهزم الجيوش الكثيرة عليها، ثم حاصر قسطيلية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وفتح تبسة ومجانة وهدم سورها، وأمن أهلها، ودخل مرمجنة، فلقيه رجل من أهلها، وأهدى له حماراً أشهب مليح الصورة، فركبه أبو يزيد من ذلك اليوم.
وكان قصيراً أعرج يلس جبة صوف قصيرة، قبيح الصورة، ثم إنه هزم كتامة، وأنفذ طائفة من عسكره إلى سبيبة، ففتحها وصلب عاملها، وسار إلى الأربس، ففتحها وأحرقها ونهبها، وجاء الناس إلى الجامع، فقتلهم فيه، فلما اتصل ذلك بأهل المهدية استعظموه، وقالوا للقائم: الأربس باب إفريقية، ولما أخذت زالت دولة بني الأغلب؛ فقال: لا بد أن يبلغ أبو يزيد المصلى، وهو أقصى غايته.
ثم إن القائم أخرج الجيوش لضبط البلاد، فأخرج جيشاً إلى رقادة، وجيشاً إلى القيروان، وجمع العساكر، فخاف أبو يزيد، وعول على أخذ بلاد إفريقية وإخراجها وقتل أهلها، وسير القائم الجيش الذي اجتمع له مع فتاة ميسور، وسير بعضه مع فتاة بشرى إلى باجة، فلما بلغ أبا يزيد خبر بشرى ترك أثقاله وسار جريدة إليه، فالتقوا باجة، فانهزم عسكر أبي يزيد وبقي في نحو أربعمائة مقاتل، فقال لهم: ميلوا بنا نخالفهم إلى خيامهم؛ ففعلوا ذلك، فانهزم بشرى إلى تونس، وقتل من عسكره كثير من وجوه كتامة وغيرهم، ودخل أبو يزيد باجة فأحرقها ونهبها، وقتلوا الأطفال، وأخذوا النساء، وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى نفسه فأتوه، وعمل الأخبية والبنود وآلات الحرب.
ولما وصل بشرى إلى تونس جمع الناس وأعطاهم الأموال، فاجتمع إليه خلق كثير، فجهزهم وسيرهم إلى أبي يزيد، وسير إليهم أبو يزيد جيشاً، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب أبي يزيد، ورجع أصحاب بشرى إلى تونس غانمين، ووقعت فتنة في تونس، ونهب أهلها دار عاملها، فهرب، وكاتبوا أبا يزيد، فأعطاهم الأمان، وولى عليهم رجلاً منهم يقال له رحمون، وانتقل إلى فحص أبي صالح، وخافه الناس، فانتقلوا إلى القيروان، وأتاه كثير منهم خوفاً ورعباً.
وأمر القائم بشرى أن يتجسس أخبار أبي يزيد، فمضى نحوه، وبلغ الخبر إلى أبي يزيد، فسير إليهم طائفة من عسكره، وأمر مقدمهم أن يقتل، ويمثل، وينهب، ليرعب قلوب الناس، ففعل ذلك، والتقى هو وبشرى، فاقتتلوا وانهزم عسكر أبي يزيد، وقتل منهم أربعة آلاف، وأسر خمسمائة، فسيرهم بشرى إلى المهدية في السلاسل فقتلهم العامة.

.ذكر استيلاء أبي يزيد على القيروان:

لما انهزم أصحاب أبي يزيد غاظه ذلك، وجمع الجموع، ورحل وسار إلى قتال الكتاميين، فوصل إلى الجزيرة، وتلاقت الطلائع، وجرى بينهم قتال، فانهزمت طلائع الكتاميين، وتبعهم البربر إلى رقادة، ونزل أبو يزيد بالغرب من القيروان في مائة ألف مقاتل، ونزل من الغد شرقي رقادة، وعاملها خليل لا يلتفت إلى أبي يزيد، ولا يبالي به، والناس يأتونه ويخبرونه بقربهم، فأمر أن لا يخرج أحد لقتال، وكان ينتظر وصول ميسور في الجيش الذي معه.
فلما علم أبو يزيد ذلك زحف إلى بعض عسكره، فأنشبوا القتال، فجرى بينهم قتال عظيم قتل فيه من أهل القيروان خلق كثير، فانهزموا وخليل لم يخرج معهم، فصاح به الناس، فخرج متكارهاً من باب تونس، وأقبل أبو يزيد، فانهزم خليل بغير قتال، ودخل القيروان ونزل بداره وأغلق بابها ينتظر وصول ميسور، وفعل كذلك أصحابه، ودخل البربر المدينة فقتلوا وأفسدوا، وقاتل بعض الناس في أطراف البلد.
وبعث أبو يزيد رجلاً من أصحابه اسمه أيوب الزويلي إلى القيروان بعسكر، فدخلها أواخر صفر، فنهب البلد وقتل، وعمل أعمالاً عظيمة، وحصر خليلاً في داره، فنزل هو ومن معه بالأمان، فحمل خليل إلى أب يزيد فقتله، وخرج شيوخ أهل القيروان إلى أبي يزيد، وهو برقادة، فسلموا عليه وطلبوا الأمان، فماطلهم، وأصحابه يقتلون وينهبون، فعاودوا الشكوى، وقالوا: خربت المدينة؛ فقال: وما يكون؟ خربت مكة، والبيت المقدس! ثم أمر بالأمان، وبقي طائفة من البربر ينهبون، فأتاهم الخبر بوصول ميسور في عساكر عظيمة، فخرج عند ذلك البربر من المدينة خوفاً منه.
وقارب ميسور مدينة القيروان، واتصل الخبر بالقائم أن بني كملان قد كاتب بعضهم أبا يزيد على أن يمكنوه من ميسور، فكتب إلى ميسور يعرفه ويحذره، ويأمره بطردهم، فرجعوا إلى أبي يزيد وقالوا له: إن عجلت ظفرت به؛ فسار من يومه، فالتقوا، واشتد القتال بينهم، وانهزمت ميسرة أبي يزيد، فلما رأى أبو يزيد ذلك حمل على ميسور، فانهزم أصحاب ميسور، فعطف ميسور فرسه، فكبا به، فسقط عنه، وقاتل أصحابه عليه ليمنعوه، فقصده بنو كملان الذين طردهم، فاشتد القتال حينئذ، فقتل ميسور، وحمل رأسه إلى أبي يزيد، وانهزم عامة عسكره، وسير الكتب إلى عامة البلاد يخبر بهذا الظفر، وطيف برأس ميسور بالقيروان.
واتصل خبر الهزيمة بالقائم، فخاف هو ومن معه بالمهدية، وانتقل أهلها من أرباضها إلى البلد، فاجتمعوا واحتموا بسوره، فمنعهم القائم، ووعدهم الظفر، فعادوا إلى زويلة، واستعدوا للحصار، وأقام أبو يزيد شهرين وثمانية أيام في خيم ميسور، وهو يبعث السرايا إلى كل ناحية، فيغنمون ويعودون.
وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها بالسيف، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء، وأحرقوها، وشقوا فروج النساء، وبقروا البطون، حتى لم يبق في أفريقية موضع معمور ولا سقف مرفوع، ومضى جميع من بقي إلى القيروان حفاة عراة، ومن تخلص من السبي مات جوعاً وعطشاً.
وفي آخر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة أمر القائم بحفر الخنادق حول أرباض المهدية، وكتب إلى زيزي بن مناد، سيد صنهاجة، وإلى سادات كتامة والقبائل يحثهم على الاجتماع بالمهدية وقتال النكار، فتأهبوا للمسير إلى القائم.

.ذكر حصار أبي يزيد المهدية:

لما سمع أبو يزيد بتأهب صنهاجة وكتامة وغيرهم لنصرة القائم، خاف ورحل من ساعته نحو المهدية، فنزل على خمسة عشر ميلاً منها، وبث سراياه إلى ناحية المهدية، فانتهبت ما وجدت، وقتلت من أصابت، فاجتمع الناس إلى المهدية، واتفقت كتامة وأصحاب القائم على أن يخرجوا إلى أبي يزيد ليضربوا عليه في معسكره لما سمعوا أن عسكره قد تفرق في الغارة، فخرجوا يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة.
وبلغ ذلك أبا يزيد، وقد أتاه ولده فضل بعسكر من القيروان، فوجههم إلى قتال كتامة، وقد عليهم ابنه، فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا، وبلغ الخبر أبا يزيد، فركب بجميع من بقي معه، فلقي أصحابه منهزمين، وقد قتل كثير منهم، فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح، واقتحم قوم من البربر فدخلوا باب الفتح، فأشرف أبو يزيد على المهدية ثم رجع إلى منزله، ثم تقدم إلى المهدية في جمادى الآخرة، فأتى باب الفتح، ووجه زويلة إلى باب بكر، ثم وقف هو على الخندق المحدث، وبه جماعة من العبيد، فناشبهم أبو يزيد القتال على الخندق، ثم اقتحم أبو يزيد ومن معه البحر، فبلغ الماء صدور الدواب، حتى جاوزوا السور المحدث، فانهزم العبيد، وأبو يزيد في طلبهم.
ووصل أبو يزيد إلى باب المهدية، عند المصلى الذي للعيد، وبينه وبين المهدية رمية سهم، وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون، وأهلها يطلبون الأمان، والقتال عند باب الفتح بين كتامة والبربر وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك الجانب، فحمل الكتاميون على البربر، فهزموهم، وقتلوا فيهم، وسمع أبو يزيد بذلك، ووصل زيري بن مناد في صنهاجة، فخاف المقام، فقصد باب الفتح ليأتي زيري وكتامة من ورائهم بطبوله وبنوده، فلما رأى أهل الأرباض ذلك ظنوا أن القائم قد خرج بنفسه من المهدية، فكبروا وقويت نفوسهم، واشتد قتالهم، فتحير أبو يزيد، وعرفه أهل تلك الناحية، فمالوا عليه ليقتلوه، فاشتد القتال عنده، فهدم بعض أصحابه حائطاً وخرج منه فتخلص، ووصل إلى منزله بعد المغرب، وهم يقاتلون العبيد، فلما رأوه قويت قلوبهم، وانهزم العبيد وافترقوا.
ثم رحل أبو يزيد إلى ثرنوطة، وحفر على عسكره خندقاً، واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية، والبربر، ونفوسة، والزاب، وأقاصي المغرب، فحصر المهدية حصاراً شديداً، ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها، ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة من السنة، فجرى قتال عظيم قتل فيه جماعة من وجوه عسكر القائم، واقتحم أبو يزيد بنفسه، حتى وصل إلى قرب الباب، فعرفه بعض العبيد، فقبض على لجامه وصاح: هذا أبو يزيد فاقتلوه! فأتاه رجل من أصحاب أبي يزيد فقطع يده وخلص أبو يزيد.
فلما رأى شدة قتال أصحاب القائم كتب إلى عامل القيروان يأمره بإرسال مقاتلة أهلها إليه، ففعل ذلك، فوصلوا إليه، فزحف بهم آخر رجب، فجرى قتال شديد انهزم فيه أبو يزيد هزيمة منكرة، وقتل فيه جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان، ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال، فجرى قتال عظيم، وانصرف إلى منزله، وكثر خروج الناس من الجوع والغلاء، ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها المهدي وملأها طعاماً، وفرق ما فيها على رجاله، وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب والميتة، وخرج من المهدية أكثر السوقة والتجار، ولم يبق بها سوى الجند، فكان البربر يأخذون من خرج ويقتلونهم ويشقون بطونهم طلباً للذهب.
ثم وصلت كتامة فنزلت بقسطنطينة، فخاف أبو يزيد، فسار رجل من عسكره في جمع عظيم من ورفجومة وغيرهم إلى كتامة، فقاتلهم فهزمهم، فتفرقوا، وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية، وينهبون، ويقتلون، ويرجعون إلى منازلهم، حتى أفنوا ما كان في إفريقية فلما لم يبق ما ينهب توقفوا عن المجيء إليه فلم يبق معه سوى أهل أوراس وبني كملان.
فلما علم القائم تفرق عساكره أخرج عسكره إليه، وكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ثم صبحوهم من الغد، فلم يخرج إليهم أحد، وكان أبو يزيد قد بعث في طلب الرجال من أوراس، ثم زحفت عساكر القائم إليه، فخرج من خندقه، واقتتلوا، واشتد بينهم القتال، فقتل من أصحاب أبي يزيد جماعة منهم رجل من وجوه أصحابه، فعظم قتله عليه، ودخل خندقه ثم عاود القتال، فهبت ريح شديدة مظلمة، فكان الرجل لا يبصر صاحبه، فانهزم عسكر القائم وقتل منهم جماعة وعاد الحصار على ما كان عليه، وهرب كثير من أهل المهدية إلى جزيرة صقلية، وطرابلس، ومصر، وبلد الروم.
وفي آخر ذي القعدة اجتمع عند أي يزيد جموع عظيمة، وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها، فتخير الكتاميون منهم مائتي فارس، فحملوا حملة رجل واحد، فقتلوا في أصحابه كثيراً، وأسروا مثلهم، وكادوا يصلون إليه، فقاتل أصحابه دونه وخلصوه، وفرح أهل المهدية، وأخذوا الأسرى في الحبال إلى المهدية، ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وهو مقيم على المهدية.
وفي المحرم منها ظهر بإفريقية لأجل يدعو الناس إلى نفسه، فأجابه خلق كثير وأطاعوه، وادعى أنه عباسي ورد من بغداد ومعه أعلام سود فظفر به بعض أصحاب أبي يزيد وقبض عليه، وسيره إلى أبي يزيد فقتله، ثم إن بعض أصحاب أبي يزيد هرب إلى المهدية بسبب عداوة كانت بينهم وبين أقوام سعوا بهم إليه، فخرجوا من المهدية مع أصحاب القائم فقاتلوا أصحاب أبي يزيد، فظفروا، فتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه غير هوارة وأوراس وبني كملان، وكان اعتماده عليهم.